لا نكاد نمضي في عمرنا قليلًا إلا ونقف أمام هاتين القصتين، ندرسهما في صف مبكر جدًا، لكنهما – ورغم أنهما يحملان في داخلهما معاني عظيمة – لا يجدان منا الإدراك الفعلي لهما، كرسائل يجب أن تستمر معنا في حياتنا، ترافقنا طوال الوقت.
القصة
الأولى: "عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم – قال: عُذّبت امرأة في هرّة ، سجنتها حتى ماتت ، فدخلت فيها النار ؛ لا
هي أطعمتها ، ولا سقتها إذ حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".
القصة
الثانية: "عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن
رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش، فأخذ الرجل خفه، فجعل يغرف له به حتى أرواه،
فشكر الله له فأدخله الجنة."
يمكن
أن تمر هذه القصص مرور الكرام، لكن ألا يستحق مضمون هذا الكلام الوقوف عنده؟ أن
ندرك الرسالة التي يحملها، فالقصتان اتفقتان على المعنى، الرحمة، وكيف يمكن للرحمة
إرسال أحدنا إلى الجنة، أو تحول طريق آخر إلى النار، حتى ندرك نحن أهمية الرحمة في
التعامل فيما بيننا.
من
بين كل صفات الله عز وجل نجد الله –سبحانه وتعالى– يقول على نفسه في القرآن:
"وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ".
"قُل
لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ
الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ".
يا الله.. يا لعظمة هذه الرحمة حتى يخبرنا الله،
ويطمئن قلوبنا أنه قد كتبها على نفسه، حتى ندرك نحن، أن الله قد خلقنا وهو يرحمنا،
يعلم ما نفوسنا جميعًا، يعلم أننا نخطيء، لكنه سيغفر لنا، سيمنحنا فرصة أخرى، بل
فرص لنتوب، ما دمنا نسعى إلى طريقه حقًا.
وفي آية أخرى: "وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي
أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا
يُؤْمِنُونَ".
ورحمتي
وسعت كل شيء، فرصة أخرى يمنحها الله للجميع، لنعلم ونؤمن وندرك أن رحمته تسع كل
شيء.
حين
أرسل الله سيدنا محمد، كخاتم للأنبياء والرسل قال له "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ".
الرسول، مبعوث من الله، يدعوهم إلى دينه، رحمة
للعالمين جميعًا.
ثم
ماذا نفعل نحن البشر؟
رغم
كل هذه الرسائل التي يمنحنا الله إياها، نقرر أن نقسو على بعضنا البعض، نهمل
الرحمة تمامًا، وتتحجر القلوب في تعاملها مع الناس، أصبح البعض يظن أن الرحمة صفة غير
مقبولة في عالمنا، وأنها ربما ضعف، أو ضياع للحق.
وأصبحنا نحاكم بعضنا، ننصب أنفسنا آلهة تحاكم
غيرها، وكأن الله منح من يتكلم، مفتاح جنته، أو جعله ناطقًا باسمه، يحدد من سيذهب
إلى الجنة، ومن سيذهب إلى النار.
ونسينا
أن الله، حين كتب على نفسه الرحمة، وحين أرسل عباده إلى الجنة أو النار، بسبب
الرحمة، وأننا مخلوقات الله، علينا أن نتحلى بهذه الصفة، نحاول أن نكون "
مرسال رحمة " كوننا خلفاء لله في أرضه، وبالتالي نحمل جزءًا من هذه الصفة.
في
غزوة أحد، حين غادر بعض المسلمين مواقعهم في الغزوة لجمع الغنائم وكاد ذلك يتسبب
في هزيمة المسلمين في الغزوة، يصدر الأمر الآلهي إلى الرسول " فَبِمَا رَحْمَةٍ
مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ
حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ "
يخبر فيها الرسول بوجوب تعامله بالرحمة مع المسملين، ولولا الرحمة لما اجتمع حوله
أحد وما صدقه الناس، بل ويأتي الأمر للرسول بمشاورتهم في الأمر وأن يغفر لهم
موقفهم في الغزوة، الرحمة هي الصفة التي ميّزت الرسول، والتي أرسله الله بها، فإن
كنا نرى في رسولنا الكريم قدوة حسنة، ومثال نقتضي به، نحاول أن نسير على دربه دائمًا،
فأين نحن من رحمته؟
في مقولة عن جلال الدين الرومي يقول "سلام على أولئك الذين رأوا جدار روحك يريد أن ينقض “فأقاموه” .. ولم يفكروا
أن يتخذوا علية اجرًا"
هؤلاء
الناس، نحن نعتبرهم أفضل من يعبرون في حياتنا، لأنهم يتعاملون معنا بمنطق الرحمة،
كل ما يفعلونه أنهم يرون فينا نقصًا، فيكمّلوه، يرون فينا فقدًا، فيعوّضوه، كأن
الله جعلهم لنا رسل لرحمته في الأرض.
لا يهتمون بما نفعل، لا يحكمون علينا بأننا في
الهاوية، إنما يسعون إلى أن يكونوا رحماء بنا، وبما نحن فيه، يأخذون بيدنا مرة أخرى
إلى طريق الله، مهما كان بعيدًا عنا، يرحمون ضعفنا الإنساني، فقط لأن الله جعل
فيهم الرحمة صفة يعيشون بها، ويمنحونها إلى غيرهم.
الرحمة، نحن دائمًا نطلبها من الله، في كل وقت،
وحتى حين ندعوه، نقول " اللهم عاملنا برحمتك لا بعدلك " وعلى الرغم من
أن الدعاء قد يكون فيه جزء من الخطأ، لأن عدل الله، بالطبع شيء عظيم، لكن لأننا
ندرك بأننا بشر نخطيء، وعقلنا يفسر العدل أن نعاقب إذا اخطأنا، لذلك نطلب من الله
أن يعاملنا برحمته، وحتى لو كنا ندرك العدل بشكل صحيح، فنحن نحب رحمة الله بنا.
كل هذه الأدلة بالنسبة لي، لا تؤكد إلا أن الله
خلقنا، ليرحمنا، ولم يخلقنا، لنقسو نحن على بعضنا، وأن ما نفعله في بعض الأوقات بالتفكير
في عقاب الله قبل رحمته، ربما تصرف خاطيء، وأن هناك من الأمور التي لم ندركها،
ومنها كم نحتاج إلى الرحمة في هذا الوقت الذي نحياه، كيف أن الرحمة يمكنها أن تحول
حياة البعض إلى الأفضل، وكيف أن فقدها يمكن أن يحولها إلى الأسوء.
كونوا دائمًا رسل للرحمة من الله، يبعث الله بكم
لتطيّبوا جراح من يحتاج إليكم لا تزيدونها ألمًا، لا تفقدوا الأمل أبدًا في رحمة
الله، قبل أن تحدثوا الناس عن عذاب الله، حدثوهم عن رحمته، وإن ظننتم أن الطريق
الذي يسير فيه البعض لا يؤدي إلا إلى النار، فلربما في آخره تنتظر إشارة، تأخذ بيد
السائر إلى الجنة، وقد تكون أنت هذه الإشارة، الله وحده يعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق